(النعيم المقيم)
قال ابن القيم رحمه الله :
وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده ، وجعلها مقرا لأحبابه ، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه ، ووصف نعيمها بالفوز العظيم ، وملكها بالملك الكبير ، وأودعها جميع الخير بحذافيره ، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص .
بين ربنا سبحانه أن نعيم الجنة خير من الدنيا وأفضل ، وأطال في ذم الدنيا وبيان فضل الآخرة ، وما ذلك إلا ليجتهد العباد في طلب الآخرة ونيل نعيمها .
{لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ} [آل عمران : 198] .
ولو ذهبنا نبحث في سر أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا لوجدناه من وجوه متعددة :
أولا : متاع الدنيا قليل ، قال تعالى : {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء : 77] .
ثانيا : هو أفضل من حيث النوع ، فثياب أهل الجنة وطعامهم وشرابهم وحليهم وقصورهم أفضل مما في الدنيا ، بل لا وجه للمقارنة ، فإن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» .
ثالثا : قارن نساء أهل الجنة بنساء الدنيا لتعلم فضل ما في الجنة على ما في الدنيا ، ففي صحيح البخاري عن أنس ، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : «لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما ، ولملأت ما بينهما ريحاً ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» .
رابعا : الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها ، فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط والبول ، والروائح الكريهة ، وإذا شرب المرء خمر الدنيا فقد عقله ، والجنة خالية من ذلك كله ، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون ، ولا يبصقون ولا يتفلون ، وخمر الجنة كما وصفها خالقها بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ . وماء الجنة لا يأسن ، ولبنها لا يتغير طعمه . أَنْهَارٌ مِّن ماء غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ . ونساء أهل الجنة مطهرات ، كما قال تعالى : {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 25]َ
وقلوب أهل الجنة صافية ، وأقوالهم طيبة ، وأعمالهم صالحة ، فلا تسمع في الجنة كلمة تكدر الخاطر ، وتعكر المزاج ، فالجنة خالية من باطل الأقوال والأعمال ، {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} . ولا يطرق المسامع إلا الكلمة الصادقة الطيبة السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذابًا ، إنها دار الطهر والنقاء والصفاء الخالية من الأشواب والأكدار ، إنها دار السلام والتسليم لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا ” . ولذلك فإن أهل الجنة إذا خلصوا من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، ثم يهذبون وينقون بأن يقتص لبعضهم من بعض ، فيدخلون الجنة وقد صفت منهم القلوب ، وزال ما في نفوسهم من تباغض وحسد ونحو ذلك مما كان في الدنيا ، وفي الصحيحين في صفة أهل الجنة عند دخول الجنة (( لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم قلب واحد ، يسبحون الله بكرة وعشياً )) .
وقد نقل عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما – أن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يشربون من عين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل ، ويشربون من عين أخرى فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل …