.
لا ريب أنَّ العلم رفعةٌ في الدرجات، وفضلٌ وخيرٌ في الدنيا وبعد الممات، فالمتحلي به رشيد، والمتأسي به سديد.
ومن حُلل العلمِ الكريمةِ وسماتِه الشريفةِ أن يلتزم حاملُه وطالبُه الآداب، وأن يطلب المرءُ الأدب مع العلم، فالعلم بلا أدبٍ طعمه مر، ويكون بذلك مرًا على آخذه ومعطيه.
فلا رفعةَ لعالمٍ افتقر لكريم الخصال، ولا لمتعلمٍ نبذ الأخلاقَ والآداب وراءَ ظهره، فالطالب إنْ لم يعتمد الآداب نُزعت البركة مما طلب من العلوم، ووُسِم قلبُه بالخذلان، وحُرم الخير الكثير في حال طلبه وتحصيله، فتجده يأخذ العلم من غير بابه، فيصبح مفلسا مفرطا في وقته، مضيعا للصالح من الأعمال، تائها في أصول التعلُّم والتعليم.
إنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء، والميراثُ المأخوذُ عنهم هو العلم المصاحب لكريم أخلاقهم وشريفِ سماتهم، وجميل أقوالهم وأفعالهم، وهديهم في دعوتهم وإرشادهم.
و إنَّ للعلم آدابا تُطلب، وخصالا تُرغب، وهي تورث حاملها تقوى في نفسه، وقبولا في آذان سامعيه، ومهابة في عيون ناظريه، وبركةً في الدعوة والمقال، وصفاءً في النية والأعمال، وحفظاً للأوقات، وحسنا في السمات والهيئات، ومعرفةً بالأصول المهمات.
والآداب المطلوبة في طلب العلم كثيرة، فمنها ما يعود إلى العالم ومنها ما يعود إلى المتعلم، وهي عائدة إلى النفسِ والقلبِ والهيئة والأخلاق وطرائق الطلب، ومعرفة مداخل العلم وسبل تحصيله.
وإنَّ للآداب أصولاً في الدين، وفي كلام العلماءِ الربانيين، فمن السنة الحديث المشهور حديث جبريل عليه السلام، الذي سأل فيه النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أركانِ الإيمان والإسلام والإحسان، ففي الحديث آداب ثلاثة:
أولها: حسنُ الأدبِ والهيئة المتعلقة بالمتعلم المريدِ للعلم، ففي الحديث أسند جبريلُ عليه السلام ركبتيه بركبتي النبيِّ صلى الله عليه وسلم ووضع يديه على فخذيه على هيئة المتذلل المحتاج للعلم، فأشار بعضُ أهل العلم إلى حسن ذلك، فالطالبُ للعلمِ يكون في هيئة المحتاج المتذلل للعلم، لا في هيئة المُعرضِ أو المتكبرِ أو المستهزئ أو المختبرِ ونحو ذلك.
و الأدب الثاني: حسنُ الطلبِ وحسنُ السؤال، حيث بدأ جبريلُ عليه السلام في طلبه وسؤاله عن أعظم المسائلِ والشعائر، فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فهذا أدبٌ في حسنِ السؤال وكيفية الطلب ومعرفة ما يُبدأ به من العلوم.
و الأدب الثالث: حسنُ التعليم، ففي آخر الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)، فهذا أدبٌ متعلقٌ بالمعلمِ وبكيفية تعليمه للناس وكيفية دعوته وإرشاده للخلق.
فالشاهد أنَّ هذا الحديث من الأحاديثِ المشيرةِ إلى باب الآداب المتعلقةِ بالعالم أو المتعلم، وهي في السنة كثيرة، وقد اعتنى أهلُ العلم بهذا الباب فألَّفوا فيه الأبوابَ والفصول، وأكثروا فيه من الأقوال والمنقول.
و قد كان السلفُ يطلبون الأدبَ قبل العلم، فهذه أم الإمام مالك رحمه الله كما ذكر ابنُ فرحون في الديباج المذهب (1 /20 ) : “كانت إذا ألبستْ الإمامَ مالكاً العمامةَ أمرته أن يذهبَ إلى مجلس ربيعة بن عبد الرحمن وتقول لابنها: ” أي بني اجلس مع ربيعة، وخذ من أدبه ووقاره وخشوعه قبل أن تأخذ من علمه”.
و روى أبو نعيم في حلية الأولياء(9215) بسنده إلى سفيان الثوري أنه قال: “كان الرجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدب وتعبد قبل ذلك بعشرين سنة”.
و في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1 /79) أنَّ الإمام مالك بن أنس قال:” قال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهَدي كما يتعلمون العلم. قال: وبعث ابن سيرين رجلًا فنظر كيف هدي القاسم بن محمد وحاله”.
وكان الإمام مالك رحمه الله يؤكد على وجوب التزام طالب العلم بالآداب الطيبة الكريمة فيقول: “حق على طالب العلم أن تكون فيه سكينة ووقار، واتباع لأثر من مضى قبله”. [جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر: 544].
وكان السلفُ رضوان الله عليهم يرحلون ويتحملون عناء السفر إلى أهل العلمِ لتعلُّم الأدب وأخذ السمت الحسن قبل العلم، ذكر القاسم بن سلام في غريب الحديث (3 /383) ” أنه كان أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرحلون إليه، فينظرون إلى سمته، وهديه، ودلِّه، قال: فيتشبهون به “.
وقال البهوتي في شرح منتهى الإرادات ( 1 /9): ” قال القاضي أبو يعلى: روى أبو الحسين بن المنادي بسنده إلى الحسين ابن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب، وحسن السمت “.
و التزام الآدابِ الحسنةِ هي وصيةُ الآباءِ لأبنائهم، وهي الحيلةُ المرغوبة لفلذات أكبادهم، فهذا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد يوصي ويقول لابنه: ” يا بني، إيت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنَّ ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث”. [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب:1/ 80].
إن الطالبَ المتأدبَ المتذللَ للعلم، والمتحلي بجميلِ الخلق مع علماءه ومجالس علمهم، ومع أقرانِه من الطلاب، يتذلل طالباً ويعزه اللهُ مطلوباً، فهذا ابن عباس – رضي الله عنهما- كان يمسك بركاب زيد بن ثابت، وكان زيد يجل منه ذلك حتى قال له: ما هذا يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن عباس: “هكذا أمرنا بأن نصنع بعلمائنا” [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1 /188].
و يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما -بسند فيه ضعف- قوله : ” ذللتُ طالبا وعززتُ مطلوبا ” [جامع بيان العلم وفضله: 474].
و في مناقب الشافعي للبيهقي (ص127) أنَّ الإمام الشافعي عوتب من كثرة تواضعه للعلماء ومن كثرة تحليه بهذا الأدب الطيب فأنشد قائلا:
أهينُ لهم نفسي فهمُ يكرمونها ولن تُكرمَ النفسُ التي لا تُهينها
وكان الصحابة- رضي الله عنهم- في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّ على رؤوسهم الطير اهتماما بحديثه، وإصغاء لقوله، كما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري، وهذا من كريمِ أدبهم، وجميلِ أخلاقهم، وحسنِ إنصاتهم.
وإنَّ طلب الأدب قبل العلم ومعه سنةٌ مطلوبة، وحليةٌ مرغوبة، فلا تنزع الهمةَ عن طلب ذلك، ولا تستبدل الخبيثَ من المسالك عوضا عن الطيب، واعلم أن تحصيلَ الآدابِ يكون بالتزامِ السنن، وتطهيرِ القلب من الدَّرَن، واجتنابِ الموبقات والفتن، وأخذِ نصح المعلمِ المؤتمَن، والنظرِ إلى العالم وسمته الحسن، والصبرِ والدعاءِ، وصرفِ الهمةِ إلى العمل بالآداب، والتسابق إلى الخير مع الأقران والأصحاب، وعليك أن لا تجعلَ للضجر مكاناً، وأن لا تجعلَ للخذلانِ والجزعِ آذانا، وأنْ تطالعَ سيرَ السالفين من العلماء الربانيين، فإنَّ في ذلك عبرةً لأولي الألباب، وبيانا لمحاسن الآداب.
فاحرص أن تستزيد من هذه الآداب بمطالعة الكتب التي اعتنت ببيانها، ومن أشهر تلك المصنفات: الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع الخطيب البغدادي، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وزغل العلم للذهبي، وتذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم لابن جماعة، والتبيان في بيان آداب حامل القرآن للنووي، وروضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان البستي حيث ذكر فصولا عديدة متعلقة بتلك الآداب، وكتاب تعليم المتعلم طريق التعلم للزرنوجي، واقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، وحلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد، والمنظومة الميمية في الآداب العلمية للحكمي، وكتب الزهد ( كالزهد للإمام أحمد وابن المبارك وغيرهما )، وكتب الحديث المسندة ( ككتاب الأدب في صحيح البخاري وغيره، وكتاب العلم في الصحيح وغيره)، وكتب التراجم كسير أعلام النبلاء، للذهبي، وغيرها من الكتب القيمة، نفعك الله بها، واستعملك في مرضاته.
حفيدة عائشه
جزاكم الله خيرا وزادكم علما
↓
23 يونيو 2014
1:10 ص
حميراء
العـلم إن لم تكتـنفه شـمـائل تـعـــليـه كان مـطـيــة الإخـفـاق.. لا تحسـبن الـعـلـم يـنـفـع وحـده مــا لـــم يـتـوج ربــــــــه بـخـــلاق..
↓
17 أغسطس 2014
11:46 م
عبدالله
جزاك الله خير..
↓
4 يونيو 2016
12:41 ص