أخرج مسلم وغيره عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، أنه قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى حيٍَ من أحياء العرب، فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنَّ أهل عُمانَ أتيتَ، ما سبُّوك ولا ضربوك).
هذا الحديث من أحاديث فضائل البلدان، وهو أشهر حديث في فضل أهل عمان، ولا يصح في فضلها غيره من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رويت في هذا الباب أحاديث لا تثبت، كالقصة المطولة لإسلام مازن بن غضوبة وكسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لأهل عمان، وكحديث أن الحجة من عمان بحجتين، وكذلك خُطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى الخلافة لما أتاه وفد أهل عمان، ومما لا أصل له في كتب الحديث ما يروى من تسميتها الغبيراء، فكل حديث في فضل أهل عمان غير حديث الباب هذا فهو غير صحيح.
وفي الحديث دلالة ظاهرة على فضل أهل عمان، حيث أنهم كانوا أسرع الناس إلى قبول الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يمنعهم عن الإسلام أنهم أهل ملك، وأهل الملك يأنفون عن اتباع غيرهم ويجالدون على ذلك بالسيوف الصوارم، ولا أن الشقة بينهم وبين مكة والمدينة بعيدة فيأمنون من خيل المسلمين أن تفجأهم على حين غرة، ومن أمن جانبه تمنع عن الخضوع لغيره.
لم يكن كل ذلك مانعا أهل عمان أن ينظروا فيما جاءهم به رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم من الحق، وأن يقبلوا دعاية الإسلام، ويخضعوا لسلطان الله، فيكونوا بأمره مؤتمرين، ولحكمه خاضعين، ولشريعته متحاكمين.
لقد جاءهم رسول من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو عمرو بن العاص رضي الله عنه، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص”، وقوله صلى الله عليه وسلم “ابنا العاص مؤمنان: هشام وعمرو” والحديثان في السلسلة الصحيحة. وكان في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص حكمة ظاهرة، فإنه رجل يحسن محادثة الملوك ومحاورتهم، وبعد أن كانت قريش ترسله لملك الحبشة ليعود بأبنائهم المهاجرين إليها بدينهم، إذا به رسولا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وداعية من دعاة التوحيد لدى ملوك أهل عمان.
وكان إيمان عمرو بن العاص إيمان عقل وقلب، فبعقله كان يقنع عقول الملوك، وبقلبه كان ينفخ في كلماته روح الإيمان، كل ذلك أسباب من أسباب الله، كان يسلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رعاية الأقوام ومقاماتهم، في رسائله ورسله إليهم.
لقد كرَّم أهل عمان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا عن ضعف وعجز، ولا عن جبن وخور، بل عن خلق أصيل، وقلب نبيل، وعقل رزين، فاستقبلوه كما تستقبل رسل الملوك، وكان يمكنهم أن يردوه مكرما بغير أن يسلموا كما فعل ملك مصر، وأن يزيدوا على ذلك بهدايا وعطايا، فلا يكون عليهم سبيل في الإحسان والإكرام، لكن رجاحة عقولهم، وصدق نفوسهم، كان بعد إرادة الله الخير لهم سببا في تعظيمهم الحق الذي أتاهم، ورفعهم رأسا بالهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه الذكرى العظيمة، هي أول ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسوله إلى ذلكم الحي من أحياء العرب يشكو إليه ضربهم إياه وسبهم له، فإذا بتلك الذكرى تأتى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكر له أهل عمان، كيف كان فعالهم وإكرامهم رسوله ورسالته، وقبولهم دعوته. فما أعظمها من ذكرى لأهل عمان، وما أعبقها من سيرة سارها أسلافهم في الطواعية للحق، والقبول به.
هكذا جعل الله أهل عمان في قبولهم الإسلام طواعية وحبا، لا كرها وبغضا، وجعل إسلامهم على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، ليأتي أهل عمان يوم القيامة في ميزان حسناته جزاء إحسانه ودعائه إياهم للإسلام، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، وليكون له من إسلام أهل مصر بعد فتحه لها مثل ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم بقي لديهم عمرو بن العاص بعد إسلامهم يعلمهم دين الله وشرائعه، ويقيم فيهم أحكام الله وحدوده، وهم مُسلّمون بذلك تسليما، وراضون به حكما قويما، حتى رفع الله إليه نبيه صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى، فجاء المدينة على رأس وفد من عمان يجددون البيعة، وينصرون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه ممن ارتد من العرب.
وهكذا بقي هذا الخلق العماني في الإحسان إلى الناس، وقبول الحق ممن جاء به، علما من أعلام النبوة، يشرف به من كان أعظم لله توحيدا وتعظيما، ولرسوله صلى الله عليه وسلم اتباعا واقتداء، ولأصحاب رسوله تشبها واهتداء، فلا يرد شيئا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغضا لقائله، أو ازدراء لناقله، أو أنفة يعزوها لعقل مغرور، أو تقليد مغمور. إنه القبول المطلق للحق، وإن خالف المألوف والمعروف، ما دام موصوفا في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الأرض لا تقدس أهلها، ولكن يُقدسُ الإنسانَ عملُه، فمن زَكَى عملُه أفلح ونجا، وزَكَت نفسُه وروحه، وما أجملَ أن يجتمع للإنسان من أسباب قبول الحق ما ييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ولله الحمد في الآخرة والأولى.
خليفة الجديدي
نشكرك عزيزي على مقالك الرائع وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حبك لعمان وأهل عمان .. وهكذا نحن العمانيين نعيش نفحات دعوات الرسول الكريم لنا وشهادته ﻷهل عمان بالخلق الكريم واحترام إنسانية اﻹنسان وإن اختلف مع اﻵخر في الدين أو العرق أو المذهب .
↓
26 مارس 2014
2:58 م
ابومعاذ
جزاك الله خيرا على هذا المقال الرائع وأسال الله أن يبارك في علمك وأن يزيدك من فضله.
↓
26 مارس 2014
3:03 م
حفيدة عائشه
جزاكم الله خيرا وبارك بعلمكم ونفع بكم الأمة.
وجزى الله خيرا القائمين على هذا الصرح العظيم وجعله الله مبارك .
↓
27 مارس 2014
1:34 ص
ابوالمنذر
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا ابوعبدالله.
↓
31 مارس 2014
12:09 م
فهد بن سالم بن بخيت بيت فاضل
وفيكم جميعا بارك الله، وجزاكم خيرا.
↓
1 أبريل 2014
9:23 م
خالد الحكماني
مقال جميل الشيخ فهد .. جزاك الله خيرا
↓
19 فبراير 2015
1:50 م