بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين …
أما بعد:
فالحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات ، الحمدلله أن تولانا برحمته وخفّف عنا هذا البلاء ونسأل الله أن يرفعه عنّا ويجزينا خير الجزاء ، فهذه جائحة اجتاحت العالم بأسره وأخلت بنظامه المعتاد وأربكت توازنهم بأصغر المخلوقات التي لا تُرى بالعين المجردة ، جائحة حالت بينهم وبين ما عهدوه في عباداتهم وأعمالهم واقتصادهم وحِلّهم وترحالهم.
لنعلم أن الله أكبر من كل شيء ، وأن الله أكبر من كل علم وتطور وصلنا إليه اليوم ، وأن الله أكبر برحمته يصيب بها من يشاء ويرفعها عن من يشاء ، فاللهم لا تُبعدنا من رحمتك وتولّنا بمنك وكرمك .
فمن هذه الجائحة نأخذ الدروس والعبر اقتبستها من خطبة أحد المشايخ الكرماء:
– جائحة “كورونا” علّمتهم أن الإنسان في حقيقته يستطيع العيش دون كثير من المكملات والتحسينات التي كان يخالها في دائرة الحاجيات والضرورات، وأنه كان في غفلة بالغة عن إعمال مفهوم الادّخار في حياته وحسن تصريف كسبه، ولا غرو فإن مثل تلكم الجائحة ستوقظه من غفلته فيعمل في مستقبل دنياه مفهوم الادّخار ليعزز به احتباس جزء من كسبه للتخفف به من أعباء مستقبله خشيةَ نوازل تَطْرُق بابَه أو تَحُلُّ قريباً من داره، مؤكّدا أن في مثل ذلك حُسْنَ تصرُّف وإتقانا في إدارة الرزق، وتميزاً في توجيه مُدَّخَراته الوجهةَ التي يتقن بها الفرز بين ضروراته وحاجياته وتحسيناته التي تتزاحم عليه بين أزمة وأخرى، فإنه لن يستقيم أمر معاشِهِ ما لم يوازن بين إنفاقه وتوزيعه وادّخاره، كيف لا وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا وأطعموا وادّخروا».
– وقد جاءت الجائحة في زمنٍ هُم أحوج ما يكونون فيه إلى كفكفة دموعهم، ولمّ شعثهم واستجماع قوتهم، وفتح ما انغلق، ورفع ما سقط، وجمع ما تفرّق، ووصل ما انقطع، متفرغين لذكر وعبادة وصدقة وقراءة وإنابة، مُلحّين في دعائهم لربهم أن يُعجل لهم بكشف هذه الغمة، وأن يخلفهم فيما فقدوه خيراً ، ويجعل ما أصابهم طهورا لهم ورفعة في درجاتهم، وعظةً لهم وذِكرى، فيما يستقدمون من دنياهم وما يستأخرون، وما يأخذون منها وما يَذَرون، مُستلهمين حالَ أمر المؤمن إنْ أصابته سراء شَكَر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صَبَر فكان خيراً له، ليظفروا إثرها بالبشرى، والصلاة من الله عليهم، وبرحمته وهدايته لهم {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (*) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (*) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة البقرة: 155 – 157]
– ومن أفضل العلاج ما ذكره ابن القيم رحمه الله: “إن في القلب شعثا لا يُلِمّه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يُزيلها إلا الأُنس به في خَلوته، وفيه حُزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يُسكنه إلا الاجتماع عليه والفِرار منه إليه”.
– ونحمد الله أن لم يجعلها جائحة في ديننا وعباداتنا وأخلاقنا، وأما المال فإنه غادٍ ورائح، والله يبسُط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، وأما الصِّحة فذاتُ فتحٍ وذاتُ إغلاق ويَعتري الإنسان ما يَعتريه من عوارض صحية، ومن عَاشَ لم يخلُ من مصيبة، وقلّ أن ينفك عن عجيبة، ولكل ما يؤذي وإن قل ألم، فما أطول الليل على من لم ينمِ، وقد قال النَّبيِّ ﷺ : «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشوْكة يشاكُها إِلا كفر اللّه بهَا مِنْ خطَايَاه».
* وختاماً أن تِلكُمُ الجائحة التي حلّت بعالمنا اليوم لا تحسبوها شراً محضاً ، بل إنّ لنا في طياتها لدروساً وعبراً ما كنا لنتعلمها قبل ذلكم ، مع إيماننا بمولانا أنه قد أعطانا كثيراً وأخذ منا قليلاً ، وإنّ مما علمتنا إياه تِلكُم الجائحة أثر الوعي في سلامة المجتمعات، فإننا متى جعلنا الوعي ذا بال في تصرفاتنا فلن نخفِقَ بإذن الله في التعامل مع النوازل والخطوب، فبالوعي يعرِفُ أحدنا متى يرفعُ بصرَه ومتى يُرخِيه، ويعرِفُ مصلحةَ دفعه الأخطار قبل وقوعها، وأنها أعلى وأَولَى من رفعها بعد وقوعها، فمن وفق في وعيه وفق في حذره، فأحسن قراءة ما بين سطور الأزمات، ومن ثم نجح في إدارتها، وخرج منها بأقل الجراح والخسائر، فإن الوعيَ والحذَر أمران زائِدان على مُجرَّد السمع والإبصار، فما كلُّ من يُبصِر يعِي ويحذَرُ ما يُبصِرُه، ولا كلُّ من يسمَعُ كذلكم.
وينبغي ألا تضعف قوانا وألا تلقي علينا لحاف اليأس والهمّ والفرق، كيف لا ونحن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
– ولقد ميّز الله أمّةَ الإسلامِ بأن من عادتها أنها تخرج من الأزمات أقوى من ذي قبل وأوعى، فهي امتحان من الله لتتفكر في عظيم قدرته فتقدره حق قدره، وهي رسالة للشارد أن يؤوب، وللمذنب أن يتوب، وللعاق أن يبر، وللمسرف أن يقتصد ، وللمترفه أن يخشوشن، ولا ينظر إلى حكمة غير ذلكم إلا قلب حجبه الحرص عن التفكر، وطول الأمل عن المراجعة، والكبرياء عن التواضع لمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه.
فأروا الله من أنفسكم جِدّاً واجتهاداً في هذه المحنة، وإن كانت دواعي الجائحة قد حالت دون ارتياد المساجد، فإن ذلك ليس بمُعفٍ أحداً عن عبادة ربه في بيته، فكما قيل: « بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان » ،كذلك يقال: « بئس القوم لا يعرفون الله إلا في المساجد » ، فلا يعرفونه في بيوتهم، ولا في مجالسهم، ولا قياما وقعوداً وعلى جنوبهم.
فإن من ظن أن الله لا يُعبد إلا في المسجد وحسب … فقط فرّط في جنب الله، وأساءَ الظن به، بل إن النوافل في البيوت لعظيمة الأجر بالغة الأثر، وإذا كان مقتضى الحال البقاءَ في البيوت فإن النبي ﷺ قد قال: «وجُعلت ليَ الأرضُ مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركَته الصلاة فليصل» ، وفي الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولَا تتخذوها قبورا».
فهنيئاً لكل من اتعظ واعتبر وخرج من هذا البلاء بقوة وعزيمه وأجور عظيمة واحتسب أجر صبره لله.
وواسفاه على من أبى وتكبر واغتمّ وأزله الشيطان في براثنه.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد.