بُعثَ النبي صلى الله عليه وسلم بتتمة مكارم الأخلاق لقوله : «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ» وفي روايةٍ: «صالحَ الأخلاقِ» (السلسلة الصحيحة) فكان خُلُقَه القرآن لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. فكانت حياته ومعاملاته مع جميع أطياف البشر ، كلها دروس وعِبَر ومرآة لحياتنا نقتبس ونتعلم منها فكان النبي صلى الله عليه وسلم حَسَنَ السيرة مع الطفل كيف يعلمه ويؤدبه ، ومع الرجل كيف يؤاخيه ويصاحبه ، ومع أزواجه كيف يعاشرهن ، والنساء كيف يوجههن ، ومع المريض كيف يواسيه ، ومع العاصي والتائب كيف يعظه ، ومع الحيوان كيف كان به رحيم .
فالذي وصلنا من سيرته لا تُشبِع شغفنا بتعاليمه صلى الله عليه وسلم ودرسنا اليوم هو كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعاهد أصحاب وأصدقاء من يحب.
فما معنى العهد :
قال أبو عبيد: العهد هنا رعاية الحرمة . وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له . وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال.
من هي حسانة المزنية؟
عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءت عجوزٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو عندي فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : «من أنتِ ؟» قالت : أنا جثَّامةُ المُزنيَّةُ فقال : «بل أنتِ حسَّانةُ المُزنيَّةُ كيف أنتُم ؟ كيف حالكم ؟ كيف كنتُم بعدنا ؟» قالت : بخيرٍ بأبي أنت وأمِّي يا رسولَ اللهِ فلما خرجتُ قلتُ : يا رسولَ اللهِ تُقبِلْ على هذه العجوزِ هذا الإقبالَ فقال : «إنها كانت تأتينا زمنَ خديجةَ وإنَّ حسنَ العهدِ من الإيمانِ». (السلسلة الصحيحة)
وفي روايةٍ أخرى عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: دخلتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام، فجعل يأكل من الطعام ويضع بين يديها، فقلت: يا رسول الله، لا تغمر يديك (لا تملاْ يدك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حُسنَ العهد، أو حفظ العهد من الإيمان» ، ولما ذكر خديجة أخذني ما يأخذ النساء من الغِيرة، فقلت: يا رسول الله، قد أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السِّن، فَغَضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «ما ذنبي أن رزقها الله مني الولد، ولم يرزقكِ؟» قلتُ: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير. (الطبراني المعجم الكبير صحيح رجاله ثقات)
فمن هذا الحديث العظيم وكل حديث النبي صلى الله عليه وسلم عظيم . نقتبس منه دروس وعبر تؤلف كتب.
فمن هي حسانة التي أقبل عليها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإقبال؟
أم زفر حسانة المزنية: امرأة عجوز من مزينة كانت صديقةً للسيدة خديجة رضي الله عنها وتُمَشِّط شعرها في مكة وكان اسمها في الجاهلية جثامة وتكنى بأم زفر ، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها ، تبرها وتعطف عليها ، فلما توفيت السيدة خديجة انقطعت جثامة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تره حتى هاجر للمدينة وأنشأ دولة الإسلام ودخل العرب في دين الله أفواجاً ، وأقبلت وفود العرب لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم وإعلان الإسلام ، فتذكرتْ السيدة حسانة رضي الله عنها محمد صلى الله عليه وسلم وكيف كان يعطف عليها في مكة ويبرها ، فأقبلت للمدينة بعد الهجرة مسلمةً مهاجرةً فدخلت بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، عند أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وهو عندها فسألها وهو لا يعرفها فقد مرت عدة سنين على آخر لقاء بينهما في بيت السيدة خديجة رضي الله عنها . فلما عرفها تغيَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم فأقبلَ عليها وهشَّ وبشَّ في وجهها وأخذ يأكل معها ويضع الطعام بين يديها ، وأخذ يسألها ويطمئن عليها بلهفه وشوق : «كيف أنتُم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتُم بعدنا؟» سؤال وراء سؤال وتجاوبه العجوز : بخيرٍ بأبي أنت وأمِّي يا رسولَ اللهِ . نعم هي بخير مادام نبي الله بين أظهرهم . فلما خرجت العجوز من بيته أقبلت السيدة عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم وقد شاهدت ما يفعله النبي صلى لله عليه وسلم ، مع العجوز فسألته عن هذا الإقبال ومن هي هذه العجوز فلما جاوبها عن العجوز الأولى غارتْ أمُّنا وحبيبةُ نبينا رضي الله عنها من العجوز الثانية السيدة خديجة رضي الله عنها ، وهي غيرة مجبولة فِطرية في قلب كل امرأة . فتقول السيدة عائشة رضي الله عنها : ما غِرتُ على امرأةٍ للنبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم ما غِرتُ على خديجةَ، هلَكَتْ قبلَ أن يتزوَّجَني، لِما كنتُ أسمَعُه يَذكُرُها، وأمَرَه اللهُ أن يُبَشِّرَها ببيتٍ من قَصَبٍ، وإن كان لَيَذبَحُ الشاةَ فيُهدي في خلائلِها منها ما يَسَعُهُنَّ .(البخاري) ، فكان ردُّهُ صلى الله عليه وسلم : «ما ذنبي أن رزقها الله مني الولد، ولم يرزقك؟» فكان تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لحسن العهد في وقته أن غضب للسيدة خديجة وأنصفها ودافع عنها فلما شاهدت الغضب على وجه النبي صلى الله عليه وسلم قالت : والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير.
عاشت حسانة رضي الله عنها بعد أن غيّر النبي صلى الله عليه وسلم اسمها من جثامة إلى حسانة في المدينة عيشة كريمة تحت عناية النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلها ويرسل إليها الهدايا والعطايا . فعن أنس رضي الله عنه قال : كان إذا أُتِيَ بِشيءٍ للنبي صلى الله عليه وسلم يقولُ : «اذْهَبُوا بهِ إلى فُلانةَ ، فإِنَّها كانَتْ صَدِيقَةَ خديجةَ ، اذهبُو إلى بيتِ فلانةَ فإنَّها كانَتْ تُحبُّ خديجةَ» . (السلسلة الصحيحة)
قال النووي رحمه الله : فِي هَذَا دَلِيلٌ لِحُسْنِ الْعَهْدِ وَحِفْظِ الْوُدِّ، وَرِعَايَةِ حُرْمَةِ الصَّاحِبِ وَالْعَشِيرِ فِي حَيَاتِهِ وَوَفَاتِهِ، وَإِكْرَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الصَّاحِب.
من فوائد هذا الحديث :
– حُسنُ العهدِ شعبةٌ من شعب الإيمان . وفي فيض القدير إنَّ (حسن العهد) أي الوفاء والخفارة ورعاية الحرمة (من الإيمان) أي من أخلاق أهل الإيمان ومن خصائلهم أو من شعب الإيمان ويكفي الموفي بالعهد مدحا وشرفاً قول من علت كلمته والموفون بعهدهم إذا عاهدوا .
– حفظِ الوُدِّ، ورعايةِ حرمةِ الصَّاحبِ والمُعاشِر؛ حيًّا وميِّتًا.
– إكرامُ معارفِ ذوي القُربى بعد وفاتِهم.
– السؤال عن الأحوال وتكرار السؤال.
– التواضع والأكل مع كبار السن.
– الغيرة في النساء مجبولات عليها ما لم تزد فتكون مذمومة.
– منقبة عظيمة للسيدة خديجة رضي الله عنها أن بشَّرها الله ببيت في الجنة من قَصَب لا لغو فيه ولا نصب منظم بالدر والياقوت واللؤلؤ .
– تعاهد أصدقاء من نحب من أب وأم وأهل والتواصل معهم بالهدايا وزيارتهم والسؤال عن أحوالهم.
والسؤال: أين نحن من هذا الحديث العظيم؟ وكيف حسن عهدنا بأهلنا وجيراننا وأصدقاء أهالينا؟ فحسن العهد من الإيمان !! نسأل الله العافية.