ما أعظم الحديث عن العظيم! وما أجل الكلام عن الكريم القدير!
من ذا الذي يصفه حق وصفه؟ ومن الذي يعبده حق عبادته؟!
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غَافِرٍ: 62-64].
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الْأَنْعَام:102].
خلق الخلق من العدم وأمدهم بالنعم، وجعل حاجة العبد إلى معرفة ربه ومولاه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب!
وإنه لا سعادة للمرء في الدارين إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته، ومحبته وعبادته. وكلما ازداد العبد معرفة بربه، ازداد له خشية ومحبة وإيمانا وتعظيما.
وعبودية القلب عبودية دائمة لدى العبد المؤمن، تلازمه في كل أحواله وشؤونه. لأن المخلوق إذا عرف ربه سكن قلبه إليه، واطمأنت نفسه له و”من عرف الله لم يكن شيء أحب إليه منه، ولم تبق له رغبة فيما سواه إلا فيما يقربه إليه، ويعينه على سفره إليه” [روضة المحبين ونزهة المشتاقين،لابن القيم: 1 /406]
وإن لله تعالى من الأسماء أحسنها وأعظمها، ومن الصفات أعلاها وأكملها، مع تنزيهه تعالى عن الشبيه والمثيل، فهو كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فله الكمال المطلق في كل شيء، وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام، كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، قوله: (اللهُمَّ! أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) [صحيح مسلم:1/ 352]
يقول ابن عبد البرــ رحمه الله ـ في شرح الحديث : “ففي قوله: (أنت كما أثنيت على نفسك) دليل على أنه لا يبلغ في وصفه إلى وصف نفسه، ومن وصفه بغير ما وصف به نفسه فقد قال بغير علم، فإنه ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء، وهو خالق كل شيء، وهو بكل شيء عليم).[الاستذكار: 2 /531]
وكل من في السماوات والأرض ينزه الله تعالى عن كل نقص وعيب:
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].وقال تعالى:{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.[الحشر:1].
والله سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: آية 3].
ومِن أحسن ما يفسر هذه الأسماء ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله، -وكذلك من أمره صلى الله عليه وسلم أن يقول المرء- إذا أوى إلى فراشه: (اللهم! رب السماوات، ورب الأرض، ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر). [أخرجه مسلم: 4/ 2084، وغيره]
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
“وإذا شرح الله صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء والصفات:
فيَشهَد بقلبه ربا عظيما قاهرا قادرا أكبر من كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، السماوات السبع قبضة إحدى يديه، والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى، … ثم يقول: أنا الملك! فالسماوات السبع في كفه كخردلة في كف العبد، يحيط ولا يحاط به، ويحصر خلقه ولا يحصرونه، ويدركهم ولا يدركونه، ولو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفا واحدا ما أحاطوا به سبحانه.
ثم يَشهَدُه في علمه: فوق كل عليم، وفي قدرته: فوق كل قدير، وفي جوده: فوق كل جواد، وفي رحمته: فوق كل رحيم، وفي جماله: فوق كل جميل، حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخص واحد منهم ثم أعطي الخلق كلهم مثل ذلك الجمال لكانت نسبته إلى جمال الرب سبحانه دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس” [شفاء العليل لابن القيم، بتصرف: 1 /108].
ويقول أيضا:
“واستولى على خلقه، متفرد بتدبير مملكته، فلا قبض ولا بسط ولا منع، [ولا هدى] ولا ضلال، ولا سعادة ولا شقاوة، ولا موت ولا حياة، ولا نفع ولا ضر إلا بيده. لا مالك غيره، ولا مدبر سواه، لا يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في السماوات والأرض، ولا له شركة في ملكها، ولا يحتاج إلى وزير، ولا ظهير، ولا معين، ولا يغيب فيخلفه غيره، ولا يعيى فيعينه سواه، ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء وفيمن شاء، فهو أول مشاهد المعرفة.
ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به وهو مشهد الإلهية:
فيَشهَده سبحانه متجليا في كماله: بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وفضله في ثوابه، فيشهد ربا قيوما متكلما، آمرا ناهيا، يحب ويبغض، ويرضى ويغضب،… وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر، وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانا، وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، إخبار من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما أخبر به.
فمن أراد سبحانه هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له وانفسح، ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج لا يجد فيه مسلكا ولا منفذا، والله الموفق المعين” [شفاء العليل لابن القيم: 1 /109].
وإن لمعرفة الله تعالى آثارا طيبة، وثمارا كريمة، فمن أعظم ذلك :
أولا: محبته تعالى، فالنفوس السوية والفطر السليمة جبلت على محبة من أحسن إليها، “فإن من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبداً، ولهذا قال تعالى حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لصاحبه أبى بكر: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له وللحزن؟ وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله” [طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم: 1 /280].
ثانيا: خشيته وهيبته، فإن ثمرة العلم الخشية، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وفي الحديث: (أمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَه) أخرجه مسلم في صحيحه.
“فكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف. قال ابن مسعود: (وكفى بخشية الله علماً). ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأَعرف الناس أخشاهم لله”. [شفاء العليل لابن القيم: 1 /283].
ثالثا: الاستقامة على الطاعة ودوام العبادة، وهو أساس الثمار كلها، وملاك ذلك كله، ولما كان الرسل أعلم الناس بالله، كانوا أشد عبادة وطاعة له تعالى. فهذا الخليل عليه السلام كان أواها منيبا قانتا لربه وشاكرا لنعمه، يقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 120، 121] ومن معاني القنوت دوام الطاعة لله عز وجل.
ونبي الله داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما، وكان صيامه أحب الصيام إلى الله.
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.
فحري بك يا عبد الله أن تسلك نهج الأنبياء في العبادة ولزوم الطاعة فمن سار على نهجهم فهو الموفق، ومن خالف نهجهم فقد ضل سواء السبيل.