توضيح الواضحات
لما جاء في مقال:
“وقفة فقهية مع بيان عدم ثبوت الرؤية” (1)
أولًا: أهداف كتابة المقال:
1) توضيح وتفسير ما عليه العلم في اللجان المختصة برؤية الهلال في بلدنا، وخصوصًا اللجنة الرئيسية.
2) الاطلاع على أقوال العلماء في المسألة.
3) توضيح المقصود والفروق بين الاعتماد على الحساب الفلكي في النفي دون الإثبات، وعدم الاعتماد على الحساب الفلكي مطلقًا.
4) عدم الاستعجال وإساءة الظن لمن يأخذ بأحد الأقوال الفقهية المعتبرة التي تجمع بين الأدلة الشرعية والحقائق العلمية.
5) وأخيرًا ليس الهدف في نظر الباحث هو ترجيح أحد القولين، ومناقشة أدلة الطرفين، وإنما هو عرض الأقوال المعتبرة في المسألة التي يخفى بيانها على بعض طلاب العلم فضلًا عن عوام الناس.
ثانيًا: مناقشة لطيفة لما وصلني من ملاحظات وتوضيحات:
1) قول أحد الأخوة المسألة تحتاج إلى بسط ونظر:
نعم أوافقك الرأي في هذا، وليس المقال السابق هدفه مناقشة جميع الأقوال مع بيان الاستدلال وقوته وضعفه، والمسألة أوسع من ذلك، وأن توضح في مقال من ثلاث صفحات من الأمر الصعب، وهي أوسع من ذلك، وقد بُحثت في رسائل علمية (ماجستير ودكتوراه)، وأُلّفت فيها الكتب.
2) أما قول بعض الأخوة بأن مسألة الاعتماد على الحساب في النفي دون الإثبات محل نظر ينفيه الدليل:
نعم هذه المسألة موضع اجتهاد ونظر، وحصل فيها كلام كثير في السنوات الأخيرة خصوصًا، لا سيما مع تقدم علم الفلك ودقة الحسابات الفلكية في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى.
قال الشيخ ابن عثيمين ¬: “الذي نرى أن يُعمل به في النفي لا في الإثبات. ومعنى ذلك: أنه لو قال شخص أنه رأى الهلال، والمراصد تقول إن الهلال لا يمكن أن يولد هذه الليلة في هذا المكان، فإننا نعمل بنفي المرصد. ولو قرر المرصد أن الهلال مولود الليلة، ولم يره أحد من الناس رؤية مجردة لم نعمل بإثبات المرصد”[1]. وقد جمع أصحاب هذا القول بين الأدلة الشرعية والحقائق العلمية، وليس المقام ذكر الأدلة ومناقشتها وتوضيح المراد منها بفهم السلف، وبفهم العلماء الربانيين، وليس المراد كذلك نصرة هذا القول على قول جماهير العلماء، وما ذكرته ضمن الأهداف هو المراد. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
3) وذكر أحد الأخوة أن علم الفلك عند القدماء أعقد وأضبط، وليس بينه وبين الشعوذة والتنجيم تلازم، ونسب هذا القول لابن تيمية.
وابن تيمية هو القائل في شرح حديث النبيء صلى الله عليه وسلم: “إنا أمةٌ أمّية …” فيه دلالة على أن الشارع ألغى الحساب من حيث تعلق عبادة الصوم به، فالشهر إما أن يكون تسعاً وعشرين أو ثلاثين، والفارق بينهما هو رؤية الهلال، وليس بينهما فرق آخر من كتاب أو حساب، وأهلُ الحساب لا يضبطون الرؤية فيقربونها تقريباً، فقد تصيب وقد تخطيء [2].
فكيف إذا أهل الحساب ضبطوا الرؤية، وتطور علم الفلك وأصبح بيد الثقات؟
وقال ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام: “والذي أقول به إن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو بيومين، فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى وأما إذا دلّ الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يُرى لولا وجود المانع كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود الحساب الشرعي وليس حقيقة الرؤية بمشروطة في اللزوم لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدد بالاجتهاد بالأمارات وجب عليه الصوم وإن لم يُر الهلال ولا أخبره من رآه”.
وقد رد أصحاب العمل بالحساب الفلكي في النفي دون الإثبات بما يلي:
وأما قولهم بأنه صلى الله عليه وسلم ألغى الحساب من حيث تعلق عبادة الصوم به، في قوله: “إنا أمةٌ أمية”، وأن أهل الحساب لا يضبطون الرؤية فيقربونها تقريباً فقد تصيب وقد تخطيء، فنقول: هذا صحيح إذا كان القائم على الحساب المنجمون والكهنة والعرافون، ولكن الحساب اليوم قائم على حسابات ومعادلات فلكية دقيقة، تكاد تصل إلى اليقين، ولا تقريب فيها، والواقع اليوم يؤكد دقة حسابات علماء الفلك في مواقيت الصلاة، وفي مواعيد الخسوف والكسوف، وغيرها.
4) قول بعضهم أن مقال ” وقفة فقهية مع بيان عدم ثبوت الرؤية” إنا هو خدمة للقائلين بالاعتماد على الحساب الفلكي.
أقول له وللجميع أن ما ذكرته في المقال المشار إليه إنما هو توضيح للمعول به في بلادنا ألا وهو الاعتماد على الحساب الفلكي في النفي دون الإثبات وليس مطلقًا، وهو واضح في البيان الصادر في عدم رؤية الهلال، مع إن الحسابات الفلكية الأخيرة في السلطنة كانت تُشير إلى أن رؤية الهلال كانت ممكنة بالمناظير.
وهذا القول ليس بِدعًا من عندي وقد قال به علماء ولهم من الأدلة والاستدلال، سواء كانت راجحة أو مرجوحة، ولعل البعض لم تتضح له المسألة، ولا يحتاج الخلط في المفاهيم، ومقالي هدفه توضيح المسألة الفقهية وذكر أقوال الفقهاء فيها، وعدم التسرع في الإنكار والتشكيك وكثرة اللغط والخلط، وإن كان مقالي يخدم القائمين على المراصد الفلكية واللجان المختصة التي تزيد عن (25) لجنة رصد منتشرة في جميع أنحاء السلطنة فأنا أتشرف بتقديم هذه الخدمة اليسيرة ، وهي مجرد ذكر أقوال العلماء في الاعتماد على الحساب الفلكي في النفي دون الإثبات لرؤية هلال رمضان، وأتشرف أيضًا بالمساهمة في نشر الوعي الفقهي في المجتمع وعدم التعصب للآراء.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه: أبو الحارث منذر بن عبود بن عباس العجمي
إمام وخطيب بمركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم بصلالة
صباح يوم الجمعة الرابع من رمضان لعام 1440 هجري
—————————————
[1] ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين مسألة (252) لأحمد القاضي.
[2] فتاوى ابن تيمية (25/173).