سلسلة (الخيّرات الصابرات)
الصحابية الجليلة أم طليق -رضي الله عنها-
أم طليق صحابية من بني أشجع بن ريث بن غطفان . امرأة عاقلة رزينة من النساء الحكيمات العالمات بالشرع والفقه في الدين ، أرادت الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعت أنه يريد الحج ، ومن لا يريد أن يحج مع أفضل البشرية عليه الصلاة والسلام وينال أجر ملازمته والحج معه فهذا شرف عظيم لمن نال هذه المَنْقَبة، فلذلك كان الصحابة والمسلمون في جزيرة العرب حريصون أشد الحرص على الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يترقبون كل سنة أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج في السنة العاشرة للهجرة تهافت عليه العرب من كل البوادي والحواضر فمنهم من حضر للمدينة لينال صحبة النبي صلى الله عليه وسلم من أول نقطة الخروج للحج، ومنهم من لحقه بالطريق، ومنهم من لحقه بمكة، ومنهم من لم يستطع الحضور في الوقت المناسب، وكانت أم طليق رضي الله عنها تترقب هذه الفرصة المباركة، فلما علمت بحج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أشجع تسكن في شِعب المدينة ففي تاريخ المدينة لابن شبة: انتقلت أشجع إلى المدينة يقودها مسعود بن رخيلة فنزلوا شعبهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحمال التمر فقال: «يا معشر أشجع ما جاء بكم ؟» قالوا : يا رسول الله جئناك لقرب ديارنا منك ، وكرهنا حربك ، وكرهنا حرب قومنا لقلتنا فيهم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {أَوْ جاءُوكم حًصِرَت صُدُورهم أن يُقَاتِلُوكُم أًوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُم … إلى قوله: سَبِيلاً} [سورة النساء: 90] . فاتخذت أشجع في محلتها مسجداً. خرجت أم طليق رضي الله عنها متلهفة مسرورة إلى زوجها ، لتستأذنه للخروج معه للحج، ولكنها انصدمت برفض زوجها وإصراره على الرفض بعد حوار وملاطفة بينهما فإليكم هذا الحوار العظيم الذي صححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحه من حديث أبو طليق رضي الله عنه إنه قال:
أنَّ امرأتَهُ أمَّ طَلَيْقٍ أتتهُ فقالت له: حضرَ الحجُّ يا أبا طَلَيْقٍ . وكان له جملٌ وناقةٌ يحُجُّ على الناقةِ ويغزو على الجملِ فسألتْهُ أن يُعطيَها الجملَ تحُجُّ عليهِ . فقال : ألن تعلمي أني حبستُهُ في سبيلِ اللهِ . قالت : إنَّ الحجَّ من سبيلِ اللهِ فأعطِنِيهِ يرحمُكَ اللهُ ! قال : ما أُريدُ أن أُعطيَكَ . قالت : فأعْطِني ناقتَكَ وحُجَّ أنتَ على الجملِ !قال: لا أُوثِرْكِ بها على نفسي . قالت : فأعْطِنِي من نفقَتِكَ . قال : ما عندي فضلٌ عنِّي وعن عيالي ما أخرجُ بهِ وما أتركُ الأصلَ أُنْزِلَ لكم . قالت: إنكَ لو أعطيتني أخلفَها اللهُ . قال : فلمَّا أَبَيْتُ عليها قالت : فإذا أَتَيْتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأقرئْهُ منِّي السلامَ وأخْبرْهُ بالذي قلتُ لكَ قال : فأتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأقرأتُهُ منها السلامَ وأخبرتُهُ بالذي قالتْ أمُّ طَلَيْقٍ . قال: «صدقتْ أمُّ طَلَيْقٍ لو أعطيتها الجملَ كان في سبيلِ اللهِ ولو أعطيتَها ناقَتَكَ كانت وكنتَ في سبيلِ الله ولو أعطيتَها من نفقَتِكَ أخلفَكها اللهُ» قال: وإنَّها تسألُكَ يا رسولَ اللهِ ما يَعدلُ الحجَّ معكَ قال : «عمرةٌ في رمضانَ» . (السلسلة الصحيحة)
وفي رواية صحيحه رواها مسدد : قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرصها على الحج . وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجةً معك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة معي عمرة في رمضان».
هذا الحوار الهادي بين الزوج وزوجته يعتبر نبراساً للحياة الزوجية . فانظر إلى أم طليق رضي الله عنها كيف تحاور زوجها بأدب وتلطف، ومن رجاحة عقلها كيف ترد عليه بالأدلة الشرعية التي أيَّدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقها عليه، ثم انظر إلى طاعتها لزوجها حين أبى عليها أن تحج معه، ولم تقف أم طليق رضي الله عنها عند هذا الحد بل طلبت من زوجها رضي الله عنه أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بما دار بينهما من حوار وأهم سؤال هو: ما يعدل الحج معك؟ نعم هو أهم سؤال فبهذا السؤال علم جميع المسلمين أن من اعتمر في رمضان كمن حجَّ مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو طليق رضي الله عنه مع أنه كان سبباً في عدم حج زوجته معه فقد اجتهد في رده عليها وأخطأ ، فهو يعتقد أن الجمل الذي وقفه للجهاد في سبيل الله لا يجوز أن يصرفه لغيره، وقد أكد له النبي صلى الله عليه وسلم، صواب رد أم طليق حين جعلت الحج من سبيل الله، كما أن الإيثار من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله سبحانه وتعالى ، فإن أبو طليق رضي الله عنه اجتهد في أن الايثار لا يكون في الطاعات، فهو رضي الله عنه أراد الحجَّ مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يستطيع أن يتنازل عن ناقته لزوجته، ولو علم أن ناقته ستكون سبباً في زيادة الحسنات له إذا أعطاه لزوجته، لأعطاه لها وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم له : «ولو أعطيتَها ناقَتَكَ كانت وكنتَ في سبيلِ الله» أي حسنات زوجته ستكون له ولا ينقص من حسناتها شيء ، للحديث الصحيح : «من دعا إلى هدى كانَ له من الأجرِ مثلُ أجورِ من اتَّبعَه من غيرِ أن يُنقصَ من أجورِهم شيئًا».
عند ذلك وعندما رأت أن زوجها لا يمكنه إعطائها الجمل أو الناقة وقلبها لا زال متعلقا بالحج مع النبي صلى الله عليه وسلم لم تفقد الأمل ، فطلبت منه نفقتها لعلها أن تشتري ما يعينها على الحج . ونفقة الزوج لزوجته من واجبات الحياة الزوجية لقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [سورة الطلاق: 7]
والحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة إنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك» [رواه مسلم]
فهي تظن بفطنتها وعلمها أن زوجها سيلبي طلبها حين طالبته بالنفقة ولكن أبا طليق رضي الله عنه اجتهد مرة أخرى بقلة المال وهو في طريقه للحج ويتطلب منه إنفاق الكثير من المال في السفر للحج والنفقة على العيال، ولكن أم طليق رضي الله عنها بينت له إن الله سيعوضه مما أنفق في سبيل الله لقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [سورة الطلاق: 2-3] . ولكن الزوج أصرَّ على الرفض ، هنا عجزت أم طليق رضي الله عنها عن إقناعه فوكّلت أمرها لله وصبرت على طاعة زوجها وضحّت بالحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها تريد أن تؤكد لزوجها أن ما قالته هو الصواب؛ فطلبت منه أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما دار بينهما من حوار ، فكان رد النبي صلى الله عليه وسلم هو تصديقٌ بكل ما قالته أم طليق رضي الله عنها، وكان من جزائها وتسليته لها أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم كل من اعتمر في رمضان كمن حجَّ معه صلى الله عليه وسلم ، فرضي الله عن أم طليق الصابرة على طاعة زوجها.
وفي روايةٍ أخرى عن عبدالله بن عباس رضي الله عنها قال: أراد رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الحجَّ، فقالتِ امرأةٌ لزوجِها. حُجَّني مع رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ . فقال: ما عندي ما أحجُّكِ عليهِ. قالت : فحُجَّني على ناضحِكَ . قال : ذاك يعْتَقِبُهُ أنا وولدُكِ . قال حُجَّني على جملِكَ فُلانٍ . قال : ذلكَ حبيسُ سبيلِ اللهِ . قالت : فبعْ تمرتَكَ . قال : ذاك قُوتي وقُوتُكِ . فلما رجع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِن مكةَ، أرسلت إليهِ زوجُها، فقالتْ : أَقرِأْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مني السلامَ ورحمةَ اللهِ، وسَلْهُ : ما تعدلُ حجةً معكَ؟ فأتى زوجُها النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال : يا رسولَ اللهِ إنَّ امرأتي تُقرئُك السلامَ ورحمةَ اللهِ، وإنها كانت سألتْني أنْ أحُجَّ بها معكَ . فقلتُ لها: ليس عندي ما أحجُّكِ عليهِ . فقالتْ : حُجَّني على جملِكَ فُلانٍ . فقلتُ لها : ذلكَ حبيسٌ في سبيلِ اللهِ . فقال: «أما إنك لو كنتَ حجَجْتَها فكان في سبيلِ اللهِ» فقالتْ : حُجَّني على ناضِحِكَ . فقلتُ ذاك يعْتَقِبُهُ أنا وولدُكِ . قالتْ : فبِعْ تمرتَكَ . فقلتُ ذاك قُوتي وقُوتُكِ . – قال : فضحكَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تعجُّبًا منْ حرصِها على الحجِّ – وأنها أمرَتْني أن أسألَكَ ما يعدلُ حجةً معكَ . قال : «أَقرِئْها مني السلامَ ورحمةَ اللهِ، وأخبِرْها أنها تعدلُ حجةً معي عمرةٌ في رمضان». [صحيح ابن خزيمة]
هذه حياة سلفنا الصالح وكيف كانت الزوجة تتعامل مع زوجها وتصبر على طاعته ، عن أبي هريرة رضي الله عنه بسندٍ صحيح : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن خيرِ النِّساءِ؟ فقالَ: «الَّتي تُطيعُ زوجَها إذا أمرَ، وتسرُّهُ إذا نظرَ، وتحفظُهُ في نفسِها ومالِهِ» [المحلي لابن حزم]
وعنده أيضا بسندٍ حسن قال : سُئِلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ عن خيرِ النساءِ فقال : «التي تُطِيعُ إذا أمرَ وتَسُرُّ إذا نظر وتحفظُه في نفسها ومالِه» [الكافي الشاف لابن حجر]
وقد بيّن الشرع على أن للزوجة حقا مؤكداً على زوجها ، فهي مأمورة بطاعته ، وحسن معاشرته ، وتقديم طاعته على طاعة أهلها من أب وأم وأخ ، ومن ذلك قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم} [سورة النساء: 34]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه». [رواه البخاري]
قال الألباني رحمه الله في آداب الزفاف معلقا على هذا الحديث: (فإذا وجب على المرأة أن تطيع زوجها في قضاء شهوته منها، فبالأولى أن يجب عليها طاعته فيما هو أهم من ذلك مما فيه تربية أولادهما، وصلاح أسرتهما ، ونحو ذلك من الحقوق والواجبات).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خمسها و صامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها : ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت». [صحيح الجامع الألباني]
وروى ابن ماجه من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت آمرًا أحدًا أن يَسجُد لغير الله لأمَرتُ المرأة أن تَسجُد لزوجها، والذي نفسُ محمد بيده لا تُؤدِّي المرأة حقَّ ربِّها حتى تُؤدِّيَ حقَّ زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قَتَب لم تَمنَعه». والقَتَب: رَحْل صغير يُوضَع على البعير. [صحيح ابن ماجه]
وعن الحصين بن محصن : أن عمّةً له أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة ففرغت من حاجتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أذاتُ زوجٍ أنتِ؟» قالت نعم قال: «كيف أنت له؟» قالت ما آلوه (أي لا أقصّر في حقه) إلا ما عجزتُ عنه . قال: «فانظري أين أنتِ منه فإنما هو جنتُكِ وناركِ». [صحيح الترغيب والترهيب للألباني] ، ولهذا قال الإمام أحمد في امرأة لها زوج وأمٌّ مريضة: طاعة زَوجها أَوجَب عليها من أمِّها، إلَّا أن يَأذَن لها.
فانظري يا أمَةَ الله أين أنتِ من جنتكِ ونارك؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [سورة الأنعام: 90]