سلسلة (الخيّرات الصابرات)
الصحابية الجليلة الحولاء بنت تُوَيت بن حبيب -رضي الله عنها-
الطريق إلى الجنة طويلٌ وشائكٌ ويحتاج للوصول إليها إلى طولُ جهدٍ وحُسنُ مثابرةٍ وصبرٌ على الطاعات. والاجتهاد في العبادات من أرقى وأقصر الطرق إلى الجنة، فلذلك نقرأ الكثير عن الصحابة، واجتهادهم في العبادة وزهدهم في الدنيا، ولكن أين الصحابيات من هذه الأعمال المقرِّبة إلى الله تعالى، فلذلك سنُلقي في هذه السلسلة (سلسلة الخيّرات الصابرات) سنلقي الضوء على بعض الصحابيات، اللاتي كان لهن دورٌ في العبادة والزهد والطاعة والعلم.
فمن هذه الصحابية الجليلة التي بسبب اجتهادها في العبادة أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاعتدال والاقتصاد في الطاعات .. إنها الصحابية الأسدية القرشية :- ( الحولاء بنت تُوَيْت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة) تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في جدهما قصي بن كلاب.
وهي قريبة النسب من السيدة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي فهن من بني أسد بن عبد العزى. وكانت الحولاء صديقة للسيدة خديجة وكانت تزورها في بيتها، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها تبرها وتعطف عليها، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها قد أثرت في الحولاء فأسلمت وهاجرت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبايعته في المدينة على الإسلام، وكانت خيّرة ديّنة كثيرةَ العبادة .
لم تقتصر حياة الحولاء رضي الله عنها عند هذا بل سطَّرتْ كُتب السّيَر مآثرها وعبادتها ، فقد كانت كثيرةَ العبادة وقيام الليل حتى اشتهرت عند نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالعبادة والتهجد في الليل ، فكانت رضي الله عنها قليلاً ما تنام من الليل بل قيل أنها لا تنام الليل حتى طلوع الفجر ، اجتهاداً وحُباً للعبادة ، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة ، فقال : «من هذه؟» قالت : فلانة تذكر من صلاتها قال : «مَه ، عليكم بما تطيقون ، فوالله لا يملُّ الله حتى تملوا» وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه [رواه البخاري] وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها : أن الحولاء بنت تويت مرت بها وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: هذه الحولاء يزعمون أنها لا تنام الليل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خذوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا» [رواه البخاري]
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع امرأةً من الليلِ تُصلِّي ، فقال : «من هذه ؟» فقيل : الحولاءُ بنتُ تويتٍ لا تنامُ الليلَ ، فكرهَ ذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حتى عُرِفَتِ الكراهيةُ في وجهِهِ ، ثم قال : «إنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا ، اكْلُفُوا من العملِ ما لكم بهِ طاقةٌ».
فبفعل السيدة الحولاء رضي الله عنها واجتهادها أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاقتصاد في الأعمال بشتى أنواعها ، فقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بما تطيقون» أي تطيقون المداومة عليه بلا تعب واجهاد للبدن والحديث هنا ليس مختصاً بالصلاة ، بل هو عام في جميع أعمال البر.
وقوله – صلى الله عليه وسلم – : «فوالله لا يمل حتى تملوا» وفي الرواية الأخرى : «لا يسأم الله حتى تسأموا» .
فقد سُئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في «مجموعة دروس وفتاوى الحرم» (1/152) :
هل نستطيع أن نثبت صفة الملل والهرولة لله تعالى؟ فأجاب: «جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قولـه: «فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملوا».
فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله ، لكن ؛ ملل الله ليس كملل المخلوق؛ إذ إنَّ ملل المخلوق نقص؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله؛ فهو كمال وليس فيه نقص ، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال، وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالاً.
ومن العلماء من يقول: إنَّ قولـه: «لا يَمَلُّ حتى تملوا»؛ يراد به بيان أنه مهما عملت من عمل؛ فإنَّ الله يجازيك عليه؛ فاعمل ما بدا لك؛ فإنَّ الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا، فيكون المراد بالملل لازم الملل.
ومنهم من قال: إنَّ هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقاً؛ لأنَّ قول القائل: لا أقوم حتى تقوم، لا يستلزم قيام الثاني، وهذا أيضاً: «لا يمل حتى تملوا»، لا يستلزم ثبوت الملل لله عَزَّ وجَلَّ.
وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أنَّ الله تعالى مُنَزَّه عن كل صفة نقص من الملل وغيره، وإذا ثبت أنَّ هذا الحديث دليل على الملل؛ فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق. اهـ.
وفي سبب هذا الحديث وما فعلته السيدة الحولاء رضي الله عنها جاء التخفيف علينا في الطاعات فمن كمال شفقته – صلى الله عليه وسلم – ورأفته بعدما رأى هذه الصحابية تجتهد في العبادة ، أرشدنا إلى ما يصلحها ويصلحنا ، وهو ما يمكنه الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر فتكون النفس أنشط والقلب منشرحا فتتم العبادة على أكمل وجه وهو ما يريده الله منا ، بخلاف من تعاطى من الأعمال ما يشق فإنه بصدد أن يتركه أو يترك بعضه أو يفعله بمشقه وبعدم حضور الجوارح ، فيفوته الأجر وتمام العبادة.
وفي قصة عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما دليلاً على هذا فقد أخرج البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال :
قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : «يا عبدَ اللهِ، ألم أُخبَرْ أنك تصومُ النهارَ وتقومُ الليلَ ؟» . فقُلْتُ : بلَى يا رسولَ اللهِ، قال : «فلا تَفعَلْ، صُمْ وأفطِرْ، وقُمْ ونَمْ، فإن لجسدِك عليك حقًّا، وإن لعينِك عليك حقًّا، وإن لزَوجِك عليك حقًّا، وإن لزَورِك عليك حقًّا، وإن بحَسْبِك أن تصومَ كلَّ شهرٍ ثلاثةَ أيامٍ، فإن لك بكلِّ حسنةٍ عشْرَ أمثالِها، فإن ذلك صيامُ الدهرِ كلِّه» . فشَدَّدْتُ فشُدِّدَ عليَّ . قُلْتُ : يا رسولَ اللهِ، إني أَجِدَ قوةً ؟ . قال : «فصُمْ صيامَ نبيِّ اللهِ داودَ عليه السلامُ ولا تَزِدْ عليه». قُلْتُ : وما كان صيامُ نبيِّ اللهِ داودَ عليه السلامُ؟ . قال :«نِصفَ الدهرِ» . فكان عبدُ اللهِ يقولُ بعدَما كَبِرَ : يا ليتَني قَبِلْتُ رُخصَةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
وفي قصة الثلاثة دليلاً آخر على الاعتدال والوسطية في الأعمال :
فقد روى أنس رضى الله عنه: أن ثلاَثَةَ رَهْطٍ جاءَوا إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عن عبادةِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوها، فقالوا: وأَين نحنُ مِنَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم؟ قد غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّم من ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ. قال أَحدُهم: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبدًا، وقال آخرُ: أَنا أَصُومُ الدَّهْرَ ولا أُفطرُ، وقال آخرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فجاءَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكم للَّهِ، وَأَتْقَاكُم له، لَكِنِّى أَصومُ وأُفْطرُ، وَأُصلِّى وَأَرقُدُ، وَأَتَزوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي» [رواه البخاري]
وقد ورد عن عائشة أيضا أنها قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فإِنَّه كَانَ يَصومُ شَعبَانَ كُلَّهُ، وكان يَقُولُ: «خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»، وأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا دُووِمَ عليه، وإِنْ قَلَّتْ، وكان إِذَا صلَّى صلاَةً دَاوَمَ عليها» [رواه البخاري ومسلم]
هذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أتقى البشرية وأعبدهم فهو الأسوة الحسنة لنا ، فقد كان يصوم ويفطر وينام ويقوم ، ويأتي أهله ويجلس مع أصحابه ،ويخصف نعليه ، ويشتري ، ويعطي كل ذي حق حقه ، وكان صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على الاعتدال في كل شيء، وعدم تعمد المشقة في العبادة ؛ فقد نهى عن الوصال في الصيام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والوِصالَ» مرّتين، قيل: إنَّكَ تُواصل؟ قال: «إني أَبِيتُ يُطْعِمُني ربي ويَسْقِيني، فاكْلَفُوا من العمل ما تُطِيقون» [أخرجه البخاري ومسلم]
ونهى كذلك على صيام الدهر فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا صام من صام الأبد». [صحيح النسائي]
وكذا من رغب عن سنة الزواج، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا عثمانُ إنِّي لمْ أُومَرْ بِالرَّهْبانِيَّةِ ، أَرَغِبْتَ عن سُنَّتِي ؟» قال : لا يا رسولَ اللهِ ، قال ، «إِنَّ من سُنَّتِي أنْ أُصَلِّي و أنام ، و أَصُومَ و أَطْعَمَ ، و أنْكِحَ و أُطَلِّقَ ، فمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فَليسَ مِنِّي ، يا عثمانُ إِنَّ لأهلِكَ عليكَ حَقًّا ، و لنفسِكَ عليكَ حَقًّا» [السلسلة الصحيحة]
ومما ورد في الاقتصاد في العبادة، ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ حيث قال: ذُكِرَ لِرَسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رجالٌ يجتَهِدونَ في العبادةِ اجتِهادًا شَديدًا ، فقال : «تلكَ ضراوةُ الإسلامِ وشرَّتُهُ ، ولِكُلِّ ضَراوةٍ شرَّةٌ ، ولِكُلِّ شرَّةٍ فترةٌ ، فمَن كانَت فترتُهُ إلى اقتِصادٍ وسُنَّةٍ فلأمٍّ ما هوَ ، ومَن كانَت فترتُهُ إلى المعاصي ، فذلِكَ الهالِكُ» [صححه أحمد شاكر]
فرضي الله عن الحولاء بنت تويت الأسدية التي كانت سبباً في إرشادنا للوسطية في الأعمال.